قرأت مقالا مطولا في جريدة (النبأ البحرينية ) يوم الأربعاء 1/7/2009م للدكتور عبد الحميد القضاة بعنوان (ضيوف الرحمن في رعاية الله .. فلا داعي للقلق من أنفلونزا الخنازير) . والكاتب كما ورد في المقال اختصاصي في الجراثيم الطبية، وقد جانبه الصواب عندما قال عن الحجاج والمعتمرين ( نعم ميكروبات ممرضة .. مع وقف التنفيذ خاصة في الحرم المقدس! فلا غرابة فهم ضيوف الرحمن وخاصته.. فهم في رعاية الله وحفظه، فلا تقلقوا عليهم من أنفلونزا الخنازير وأمثاله ) انتهى.
وبصفتي من المختصين في علم الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبيولوجي) أقول للدكتور والقراء إن هذا الكلام يتنافى مع كل القواعد العلمية والتعليمات الشرعية، فالميكروبات الممرضة تعمل في الحرم كما تعمل في كل مكان على الأرض، والله سبحانه وتعالى أعطاها خاصية الإمراض والعدوى في كل زمان ومكان تتوافر فيه عوامل العدوى وأسبابها وعوامل الإمراض، وكل ما قاله الدكتور القضاة عن معجزات الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها من بقاء الطعام مائة عام دون تغيير في خلقه (لم يتسنه) في موقف معين ولغاية معينة وليست قاعدة عامة في كل زمان ومكان، والمعجزات تأتي كما نعلم مؤيدة للأنبياء والرسل ومن شاء الله سبحانه وتعالى لهم ذلك.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوصانا في الحديث الصحيح أن لا يوردن ممرضٌ على مصح وأرشدنا إلى وجوب الفرار من المجذوم وقال له من بعيد إرجع فقد بايعناك، وأخذ صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب المادية في الهجرة النبوية من إعداد للراحلة والتمويه واتخاذ الدليل، ولم يكن يوما إتكاليا ولكن كان صلى الله عليه وآله وسلم متوكلا يأخذ بالأسباب ثم يدعو الله بعد ذلك.
وأوصانا صلى الله عليه وسلم قائلا: (إذا شرب أحدكم فلا ينفس في الإناء) جزء من حديث رواه البخاري، وفي هذا الهدي العلمي الشرعي النبوي وقاية من انتقال الأمراض المعدية بالنفس، وعنه أنه (نهى عن الشرب من فم القربة أو السقاء) وفي هذا وقاية من انتقال الأمراض المعدية بالفم واللعاب والشراب، وحماية لمياه الشرب من التلوث بالكائنات الحية الممرضة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه البخاري: (أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم وأغلقوا الأبواب وأوكئوا الأسقية وخمروا (أي غطوا) الطعام والشراب)، وفي رواية (فإن الفويسقة (أي الفأرة) تضرم على أهل البيت بيتهم)، فالوقاية والاحتياط والحذر واجب شرعي ومن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية المحافظة على النفس والنسل من جانب الوجود ومن جانب العدم.
وحادثة عدم دخول الفاروق الأرض الموبوءة بالطاعون معلومة، وقد استندت إلى الهدي العلمي النبوي بعدم دخول أرض الطاعون أو الخروج منها، في حجر صحي غير مسبوق في التاريخ، فكيف يقول المختص في علوم الجراثيم الطبية وينشر على القراء قوله (نعم الميكروبات ممرضة مع وقف التنفيذ خاصة في الحرم المقدس) انتهى.
أين الضمان العلمي والشرعي لهذا الموقف؟! آلاف الحجيج يصابون كل عام بالعدوى بالأنفلونزا العادية، ويطلب من كل حاج التطعيم ضد الأمراض المعدية، ولم يقل لهم أحد (لا تقلقوا على الحجاج فهم في رعاية الله).
هذه إتكالية عجيبة، ومنحنى خطير في التفكير العلمي، وهدم للضوابط العلمية والشرعية في مجال الأمراض والعدوى. وتحريض للحجاج على الإستهانة بالتطعيم والأخذ بالأسباب , وما كنت أتصور أن يصل الحال بعلمائنا العلميين إلى هذه الحالة العجيبة في التفكير والبعد عن الأخذ بالأسباب العلمية، وقد ذكرني هذا المقال بمقالة أحد الأساتذة الذي ادعى أن الجاذبية الأرضية منعدمة في وسط الصفا والمروة (مكان الهرولة).
ولو كان كلامه علميا لطار الناس في هذا المكان في الهواء كما يطير من يسير في الفضاء، هذا شيء عجيب وغريب وخلل في التفكير أيضا عجيب.
قال الله سبحانه وتعالى عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً{84} فَأَتْبَعَ سَبَباً{85}) (الكهف /84-85). وهذا منحنى العلماء الربانيين والعلميين، الأخذ بالأسباب وتطبيق نواميس الله في الخلق، أما أن نفتي بما ينافي العلم والشرع وبما يلقي بالمسلمين في التهلكة بحجة أنهم ضيوف الرحمن وفي رعاية الله فهذا شيء خطير يتحمل القائل به كل ما يترتب عليه من مهالك ومفاسد في الدنيا والآخرة.
علينا البعد عن إدخال الدين في المناحي الاتكالية والآراء الكهنوتية فنعود بالدين إلى عهد الكهنوتية الكنسية اللاعلمية، ونضحك الناس على الإسلام والمسلمين وننفرهم من الدين.
يقول الكاتب: (وسر الأسرار في ذلك كله كما اعتقد وازداد يقينا بذلك كل عام أنها ميكروبات ممرضة كثيرة مع وقف التنفيذ، فهؤلاء الحجاج والمعتمرون هم ضيوف الرحمن ومن أكرم صفوة العباد من خالقهم خاصة في دياره المقدسة) انتهى.
من قال أن الحجاج هم صفوة العباد؟!
وما الضمان العلمي والشرعي أن الميكروبات الممرضة تحولت إلى غير ممرضة بمجرد وصول الحامل لها والمريض إلى أرض الحرم؟! على العلماء المسلمين التحرك السريع وأن يحزموا أمرهم في فتوى علمية شرعية جماعية من مختصين تقي المسلمين من الهلاك والاتكالية غير العلمية والكهنوتية غير الشرعية، وحتى نوقف المد غير العلمي وغير الشرعي الذي بدأ يظهر في الحوارات والمقالات حول العدوى بأنفلونزا الخنازير والذهاب إلى الحج والعمرة ووقف الوباء.
أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى
دكتوراه في الميكرو بيولوجي جامعة عين شمس
www.nazme.net
جريدة النبأ (البحرين)- العدد(56) - الأربعاء 22 رجب 1430 هـ - 15 يوليو 2009م .